منجز في الحجر الصحي

في يومٍ من الأيام طلب مني أحدهم أن أقسّم نفسي إلي أجزاء و أن أسمّي هذه الأجزاء أسامي تليق بها و بالدور الذي تلعبه في حياتي، حينها كشخص يحب دائمًا أن يكون متسقًا مع ذاته و دوافعه، قسّمتُ نفسي إلي أجزاء بسرعة و كفاءة شديدتان، و في رحلة إكتشافي قابلت أكثر جزء مؤثر في حياتي، و أسميته "مُنجز". 

دعوني أحكي لكم قليلاً عن منجز، منجز قاسٍ جدًا، يسبب ليّ القلق في أوقاتٍ كثيرة، و في صراع دائم مع الوقت، لا يقبل الخسارة، أو الخطأ، أو التقصير، أو حتي التبرير، منجز يري الحياة كسباق، لا في المال، او المتع و ما إلي ذلك، منجز يري الحياة سباقًا في الإنجازات، منجز يحب نوعًا معينًا من المفكرات تدعي ال "to do list"، تساعده في ترتيب أهدافه و أن يصل إلي هدفه الأسمي دائمًا: الإنجاز

لم أخبركم عن أبرز صفة في منجز بعد، و هو أنه يهتم بالكم جدًا، أي أن خمسة إنجازات في اليوم تساوي يومًا سعيدًا جدًا، و عدد الكتب و صفحاتها هما وحدة القياس عند منجز

لا أخفيكم سرًّا الحجر الصحي كان تجربة شديدة القسوة علي منجز، حتي أنها أقسي منه هو شخصيًا، تملك الإحباط من منجز أيامًا كثيرةً، و في أوج إحباط منجز لاحظتُ أنا-نوال-شيئًا هامًا جدًا، بدأت أنفصلُ عنه تدريجيًا و أتقبل بهدوء أن هذا هو شكل الحياة في هذه الآونة، و أكتشفتُ في نفسي جزءًا جديدًا، لم أسميه بعد، ما يميز هذا الجزء أنه يؤمن بالرحلة

بعدما سلب الحجر الصحي منجز فرصة تحقيق العديد من الإنجازات التي كان يريد تحقيقها، شرع هذا الجزء في تقييم رحلة كل إنجاز منهم، فمثلاً أنا أريد الحصول علي شهادة الماجستير في أحد المجالات، و هدفي العلم، هل شهادة الماجستير هي الطريق الوحيد لتلقي العلم، العلم أصلاً رحلة، هل أكترثُ لفكرة الماجستير أكثر من رحلة العلم؟ عندها لن يكفيني أي شيئ و لن يتوقف منجز عن وضع أهداف صعبة التحقيق، ببساطة لأنه لا يستكفي أبدًا لأنه منشغل بالكم، أمّا عن الجزء الجديد، فهو علي النقيض يستمتع بقراءة أربع صفحات من كتاب في اليوم الواحد، أولاً لأنه يقبل أنه يشعر بالملل، و ثانيًا لأنه يهتم بتفاعله مع ما قرأ و كيفية إستقباله و تحليله له أكثر من إهتمامه بعدد الصفحات، فهذا الجزء لا يكترث للماجستير بقدر إكتراثه برحلة تعلم هذا العلم و ما تحتوي من كتب، و نقاشات، و مراجعات فكرية.

هذا الجزء الجديد أكثر هدوءًا و إستمتاعًا بالحياة و تقديرًا للتفاصيل الصغيرة، و الأهم من كل شيئ أنه لطيف جدًا لطف حقيقي غير مصطنع، و يعيش مع كل لحظة في الرحلة بدون تهميش أو تجاهل

حقيقةً لا أؤمن بتقسيم أنفسنا لأجزاء أو لمميزات و عيوب، و التقسيم هنا كان فقط للتوضيح، و مع ذلك منجز مازال بداخلي، و أريد أن أستمع إليه، و إلي مخاوفه التي تجعله شديد القسوة، و أريد أن أطمئنه بعدها، و لا أقتنع أبدًا بإقصاء أي جزء من نفسي، هذا الجزء هو جزء أصلاً من رحلتي و شخصي و قناعاتي و مخاوفي، ما أؤمن به فعلاً هو حتمية التعامل معه و إحتواءه، و أن النفس ليست لوحة رسم هندسية، لا يمكن معها التقسيم أو الإقصاء

و أخيرًا، أهدي هذا المقال لصديقتي سلمي إبراهيم، الطبيبة، التي تحب التاريخ و الفلسفة، تتعلم الفرنسية، و أحد أحلام حياتها أن يكون لها "فندقها" الخاص، لأنها ساعدتني جدًا في التعامل مع منجز و تهدأته و رؤية الحياة من منظور أكثر سعةً و إكتشاف الجزء الجديد الذي لم أختر له أسمًا بعد، و هي لا تعلم ذلك، و تصف نفسها بالعشوائية، و الحقيقة أن العشوائية ضرورية بعض الشيئ لأناسٍ في مقتبل العمر مازالوا لا يعلمون ماذا يريدون بالتحديد من الحياة

إلي سلمي إبراهيم، 

مع الحب و الإعجاب و التقدير و الإمتنان، 

نوال

Comments

Popular posts from this blog

عن الحب

عن الحلم التنموي

هل الفن جميل أم تعبير؟